من الأحق بتدريس مساق التنمية والتنمية المستدامة: الجغرافي أم غير الجغرافي؟

تُعد التنمية والتنمية المستدامة من أكثر الموضوعات تداولًا في الأجندات الدولية والمحلية. فهي ترتبط مباشرة بجودة الحياة، وإدارة الموارد، وتحقيق العدالة الاجتماعية، ومواجهة التغير المناخي.
لكن يبقى سؤال مهم: من هو المؤهل علميًا ومهنيًا لتدريس هذه المفاهيم المعقدة في الجامعات؟
هل هو الجغرافي الذي يملك أدوات التحليل المكاني؟
أم غير الجغرافي الذي يأتي من خلفية اقتصادية أو سياسية أو بيئية؟
هذا المقال يُقدم مقارنة علمية بين الجغرافي وغير الجغرافي، ويُبيّن لماذا يُعد الجغرافي الأحق والأكفأ في تدريس مساق التنمية والتنمية المستدامة، من منظور أكاديمي ومهني.
أولًا: تعريف التنمية والتنمية المستدامة
لفهم مَن الأحق بالتدريس، لا بد من توضيح المفهومين:
التنمية: عملية تحسين مستمر في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمعات، بهدف رفع مستوى المعيشة والعدالة.
التنمية المستدامة: تلبية حاجات الحاضر دون المساس بحقوق الأجيال القادمة، مع تحقيق توازن بين البيئة، والاقتصاد، والمجتمع.
هذان المفهومان يشملان أبعادًا مترابطة يصعب فصلها. ولكل بُعد مدخل معرفي مختلف.
ثانيًا: الجغرافي والتنمية – علاقة جوهرية
الجغرافي لا يدرس التنمية من منظور واحد، بل يراها كظاهرة مجالية شاملة.
يُحلل توزيع الموارد والخدمات بين المناطق.
يدرس الفوارق بين الحضر والريف، والمركز والهامش.
يُوظّف نظم المعلومات الجغرافية (GIS) لرصد التغيرات وتحليل البيانات.
يفهم العلاقة بين الإنسان والبيئة في كل منطقة جغرافية.
الجغرافي لا يتعامل مع التنمية كنمو اقتصادي فقط، بل كمجموعة من العلاقات الديناميكية بين الناس، والمكان، والموارد.
ثالثًا: غير الجغرافي – رؤية جزئية
غير الجغرافي، سواء أكان اقتصاديًا أو إداريًا أو سياسيًا أو بيئيًا، ينظر إلى التنمية من منظور تخصصه:
الاقتصادي يركز على الإنتاج والاستهلاك والدخل، ويهمل غالبًا البعد البيئي أو المجالي.
السياسي يهتم بصناعة السياسات دون قراءة المجال والموارد الفعلية.
البيئي يركز على حماية البيئة من التلوث أو الاستنزاف، دون دمج البعد الاجتماعي أو الاقتصادي.
المهندس يهتم بالبنية التحتية والمشروعات، لكنه قد يتجاهل الفوارق الاجتماعية أو الثقافية بين المجتمعات.
كل هذه التخصصات تسهم في فهم التنمية، لكنها لا تدمج كل الأبعاد في سياق واحد، كما يفعل الجغرافي.
رابعًا: أدوات الجغرافي التي تعزز كفاءته في تدريس التنمية والتنمية المستدامة
الخرائط التفاعلية: تُظهر التفاوتات المجالية بوضوح.
الاستشعار عن بُعد: يُساعد في تحليل التغيرات البيئية والعمرانية.
نظم المعلومات الجغرافية (GIS): أداة تحليل دقيقة لربط البيانات بالمكان.
الدراسات الميدانية: تُكسبه فهمًا واقعيًا لمشكلات التنمية على الأرض.
النظريات الجغرافية: تُساعده على تفسير الظواهر من منظور متعدد الأبعاد.
كل هذه الأدوات تجعل الجغرافي أكثر قدرة على توصيل مفهوم التنمية بطريقة تطبيقية وعلمية.
خامسًا: مقارنة تفصيلية بين الجغرافي وغير الجغرافي
الجغرافي يمتلك رؤية شاملة تدمج بين الاقتصاد والمجتمع والبيئة والمكان. بينما غير الجغرافي يقتصر على رؤية جزئية بحسب تخصصه. فالجغرافي يستخدم أدوات تحليل مكاني مثل GIS والاستشعار عن بُعد، بينما غير الجغرافي يعتمد على النماذج الحسابية أو الإحصائيات أو النظريات المجردة.
الجغرافي يُركّز على التفاوتات المكانية والعدالة المجالية. أما غير الجغرافي فقد يهمل هذه الفوارق، ويركز على السياسات العامة أو المؤشرات الاقتصادية.
أيضًا، الجغرافي يمتلك قدرة عالية على التدريس المتكامل لمفهوم التنمية، لأنه يُدرك العلاقات بين الإنسان والموارد والمكان. في المقابل، غير الجغرافي قد يُدرّس التنمية كموضوع اقتصادي أو بيئي أو سياسي فقط، دون الربط بين هذه الجوانب.
شاهد ايضا”
- الجغرافيا والتكنولوجيا: كيف غيرت التكنولوجيا فهمنا للعالم؟
- الوديان: تعريفها، أنواعها، تشكيلها، وتوزيعها الجغرافي حول العالم
- ما هي وظيفة محلل نظم معلومات جغرافية؟
سادسًا: الجغرافيا والتنمية المستدامة في التجارب العالمية
في الجامعات الأوروبية والكندية والأسترالية، تُدرّس التنمية المستدامة ضمن أقسام الجغرافيا، ويُعتبر الجغرافيون قادة في هذا المجال.
أمثلة:
جامعة كامبريدج تقدم برنامجًا بعنوان Geographies of Sustainable Development.
جامعة تورنتو تدمج التنمية ضمن الجغرافيا البشرية.
جامعة أمستردام تعتمد على التحليل المكاني في دراسات التخطيط والتنمية.
هذا الاهتمام يعكس وعيًا عالميًا بأن فهم التنمية يتطلب خلفية جغرافية قوية، وربطًا بين النظري والميداني.
سابعًا: لماذا الجغرافي هو الأحق والأكفأ؟
لأن الجغرافي يفكر بطريقة تحليلية مجالية، لا خطية.
يدرك التفاوتات بين المجتمعات والمناطق، ويقرأ الأرض قبل أن يكتب عنها.
يُقدّم حلولًا واقعية، ويُدرك تأثير المناخ، والتربة، والموقع، على التنمية.
كما يدمج بين الاستدامة والموارد الطبيعية والسياسات المحلية.
فهو يُدرّس التنمية كعلم حيّ، متصل بالمكان والسكان والموارد.
ثامنًا: توجيهات للمؤسسات الأكاديمية
إذا كنت مسؤولًا أكاديميًا أو عضوًا في لجنة تطوير مناهج، اسأل نفسك:
هل من المنطقي تدريس التنمية المستدامة دون إدراك تأثير المكان؟
هل تُبنى الخطط التنموية على البيانات فقط، أم على قراءة مجالية؟
من يعرف أين تُطبق التنمية؟ ومن يقرأ خريطة التفاوتات؟
الإجابة تقودك دائمًا إلى الجغرافي، لا إلى غيره.
الخاتمة
إذا أردنا تخريج طلاب يفهمون التنمية فهمًا شاملًا، ويستطيعون تطبيقها على الأرض، لا في تقارير نظرية، فعلينا أن نُعيد النظر في من يُدرّس هذا المساق.
الجغرافي هو الأحق بتدريس التنمية والتنمية المستدامة، لأنه لا يفهم الظاهرة فقط، بل يعرف كيف ولماذا وأين تحدث، وما العوامل التي تُسرّع أو تُبطئ تحققها.
شارك المعرفة
الدكتور / يوسف كامل ابراهيم
نبذة عني مختصرة
استاذ الجغرافيا المشارك بجامعة الأقصى
رئيس قسم الجغرافيا سابقا
رئيس سلطة البيئة
عمل مع وزارة التخطيط والتعاون الدولي
لي العديد من الكتابات و المؤلفات والكتب والاصدارات العلمية والثقافية
اشارك في المؤتمرات علمية و دولية
تابعني على
مقالات مشابهة
د. يوسف ابراهيم
أهم المضايق البحرية في العالم ولماذا تشهد صراعات؟”
د. يوسف ابراهيم
هل يمكن لغير الجغرافي أن يقوم بتدريس مساقات الجغرافيا وعلوم الأرض؟
د. يوسف ابراهيم
أزمة المناخ : الأسباب ، التأثيرات، والحلول
د. يوسف ابراهيم
قارة إفريقيا: الاكتشاف، التضاريس، السكان، والإمكانيات الاقتصادية